وأنت تدخل إلى بهو الفندق الذي قبض الله فيه روح الراحل الأستاذ محمود سر الختم الحوري وزير التربية والتعليم بالقاهرة أمس الأول، تستشعر عظمة الرجل – وهو الوزير – الاتحادي بالمقارنة مع تواضع المكان.
حينما هرعت إلى مكان الوفاة الذي يتوسّط ضاحية الدقي برفقة الأخوين الصحفي محمد جمال قندول والقطب الرياضي عبد العزيز برجاس، تخيّلت أنه أكبر فنادق القاهرة العاصمة العربية، التي تضم أفخم النزل السياحية، خاصّةً لأصحاب المقام الرفيع من الوزراء وكبار المسؤولين، لكني فُوجئت بأنّ الوزير الراحل اختار ما يمكن وصفه بـ(الأوتيل) في ثقافة المصريين، فهبط بحقائبه على فندق (بسيط) يشبه طريقة الحوري في التواضع والابتعاد عن ملذات السُّلطة ونزق أهلها الدائم للصرف والبهرجة على حساب جيب المواطن المسكين.. عاش الحوري مُعلِّماً بسيطاً وسط رصفائه الكادحين، ومات كذلك في مقام ينشده أهل التواضع من الزاهدين في زخرف الحياة وبهرج الامتيازات، وقد عرفته قبل ذلك مثالاً للمُعلِّم البسيط، وابن البلد القنوع، وهو الوزير الاتحادي، ووكيل الوزارة ومدير امتحانات السودان في وقتٍ واحدٍ.
قال لي ذات مرة، إنّ الذين يناصبونه العداء في السر والعلن من منسوبي نقابة التعليم التي أرهقته بالإضرابات لعرقلة مسيرة الأعوام الدراسية تارةً، وتجميد سير وتصحيح امتحانات الشهادة تارةً أخرى، يحسدونه على شغله الثلاثة مواقع في تلكم الفترة الانتقالية الحرجة مثلما عبروا عن ذلك مراراً، هم يعتقدون أنه يحصل على ثلاثة رواتب بمُخصّصاتها، وأنه غارقٌ في الامتيازات، ومادروا حينها انّ الرجل يبذل كل هذا الجهد بـ(راتب واحد)، وأنّ محبته للتربية والتعليم دفعته لتحمُّل كل تلكم المسؤوليات دون أن يتقاضى أجراً على مهامه كـ(وزير) وكـ(وكيل) للوزارة في ذلكم الوقت.
بالأمس، كتب الزميل العزيز بكري المدني، على حائطه في فيسبوك بعنوان (الوزير الراجل): (خرجنا مرة معاً من مجلس رئيس الوزراء، وكان يسير معنا راجلاً حتى الفندق في وسط المدينة، ولما تصادف ذلك مرة أخرى في ذات الفترة، سألته عن عربته، فقال لي إنهم لم يعطوه عربة بعد، وراح يبحث عن أعذار للدولة في ظل الحرب)، ويتابع بكري مُذكِّراً بزهد الرجل: (بعدها كتبت عن مستقبل التعليم في بلاد يسير فيها وزير التربية والتعليم راجلاً، بينما في ظل ذات الحرب يملك الوزير الواحد عدداً من العربات!!رحم الله الحوري، فلقد كان شفيفاً – نقياً – نظيفاً مظهراَ ومخبراً، أسأل الله تعالى أن يتقبله قبولاً حسناً.. “إنا لله وإنا إليه راجعون”) انتهت ملاحظة بكري.
والحوري كان مثلما وصفه بكري تماماً في الزهد والقناعة، وقد عاش ومات في الميدان، نعم قبض الله روح الحوري وهو في مهمة رسمية تتعلّق بمتابعة قضايا التعليم والمدارس السودانية في مصر، وكان بانتظار لقائه اليوم برصيفه وزير التربية والتعليم المصري لحسم الملف الذي يُؤرِّق عشرات الآلاف من الأُسر السُّودانيّة، وقد بات مصير أبنائها مجهولاً بعد إغلاق المدارس السُّودانيّة في مصر.
الحوري الذي قبض الله روحه نحسبه شهيداَ، وقد لقي ربه في مهمة عمل، إذ وصل مصر للمشاركة في ورشة عمل حول أوضاع المدارس السودانية، نظّمتها الملحقية الثقافية لسفارتنا بجمهورية مصر العربية.
لم أجد وزيراً مهموماً بقضايا حقله مثل الحوري، لن تجده في أيِّ مكان غير وزارة التربية والتعليم التي أمضى فيها جل سنيّ عمره أو المواقع ذات الصلة بعملها، يقضي نهاره وجُزءاً كبيراً من ليله بين ملفاتها وردهاتها ومكاتبها، وقد كان أنموذجاً حيّاً للوزير التكنوقراط الذي حملته شعارات القوى السياسية لحكم السودان، لا تكاد تلتقيه إلّا وهو (على عجلٍ)، مثلما غادر الفانية تماماً، يتأبط ملفاً أو يحمل أوراقاً، وقد عاش ومات وهو مهموم بقضايا التربية وتعليم الأجيال.
الرجل طينة من المعلمين العظماء، يشعرك أنّ دماءه مزيجٌ من الحبر والطباشير، تستدعي مع لغته وتهذيبه ووقار الشيب فى سيمائه النقية سيرة (المعلمين العظماء)، فقد ظَلّ من الكفاءات الكبيرة التي منحت الوزارة الثبات في أزمنة التيه والضياع، وعاش وفيّاً لمواقيت الدراسة والامتحانات وفق تقويم كان حريصاً عليه مثل مواقيت الصلاة وأزمنة الزراعة.
داخل الوزارة كان الحوري مثل النحلة، تراه وهو الوزير يحمل الأوراق والشهادات ويمضي بها مثل سعاة المكاتب بين التوقيعات وماكينات التصوير ومكاتب السِّجلات والأختام، مات بأسرار الصنعة وطرائق تأمين وإنجاز امتحانات السودان، وقد وقف على بوابتها إدارياً غض الاهاب، ومديراً ثم وكيلاً ووزيراً للتربية والتعليم، وقد كان ينجز مهام المواقع الثلاثة في آنٍ واحدٍ دون أن يكل أو يمل أو يقصر هُنا ولا هُناك، وقد دفن بين ملفات التربية والتعليم أغلى سنيّ عمره النضرات.
فاجعة السودان كبيرةٌ في (شيخ المعلمين)، الذي عَاشَ ومات وسط زملائه، أمام الفندق الذي توفي فيه كان الأساتذة يوفون لقائدهم وهم يذرفون الدمع ويتهاوون في أحضان بعضهم البعض، حضوراً لمراسم الوداع الأخير، فقد رَحلَ كبير المُربِّين الأستاذ محمود سرالختم الحوري، وهو مُمْسِكٌ بالقلم، لم يقعده المرض عن متابعة ملف المدارس، وقد علمتَ أنه أجرى عملية جراحية وهو مريض السكر، وجلس في ورشة التعليم بعد ذلك دون راحة ولمدة اربع ساعات مُتواصلة، وظَلّ يُواصل اجتماعاته بعد ذلك لحل أزمة المدارس السودانية.
ستفتقد أجيال السودان، الأستاذ محمود سر الختم الحوري، مدير عام امتحانات السودان المُعتق، ووكيل وزارة التربية والتعليم، ووزيرها الذي لقي ربه وهو يُدير أمر أبناء السودان، فكانت النهاية التي تشبه الحوري تماماً.
اسأل الله تعالى أن يُخفِّف على أبناء السودان وأهله المُصاب الجلل، العزاء لأسرته الكبيرة، وابنه وبنته، ولأرملته التي رافقته في الفندق، وحملته عندما سقط وهو يتوضأ لصلاة العصر، كريمة عمنا واستاذ الاجيال المساعد محمد المساعد (ستنا)، وهي كذلك ابنة وزارة التربية والتعليم، وأسأل الله تعالى أن يخفف عنها وقع المصيبة، نعم اختار الحوري النهاية التط تشبهه تماماً، وهو يرحل سريعاً على طريقته، ويختار أن يتوضأ استعداداً لاستقبال ملك الموت.
اللهم أغفر لعبدك الحوري، فقد مات وهو يُؤدِّي عمله، وتقبّله شهيداً، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.