منصة السودان الاخبارية
معك في كل مكان

من قطار العودة إلى قطار الإنتاج

مقال – أمين الجاك عامر –

في لحظةٍ هادئةٍ بعد صلاة الفجر، وعلى غير ميعاد، رنّ الهاتف يحمل صوتًا غاب طويلًا بفعل الحرب والنزوح. كان المتصل أحد أصدقائي الأعزاء، الذين فرقت بيننا المسافات وغيّبتهم الظروف القاسية.

بعد تبادل التحايا والسؤال عن الأحوال، أخبرني أنه اتخذ قرار العودة النهائية إلى السودان، وأنه سيغادر صباح اليوم القاهرة على متن قطار “العودة الطوعية” المجاني.
لم تكن مكالمته عابرة؛ كانت مشبعة بالمشاعر والعزيمة. تحدّث عن نجاح مشاريعه الزراعية في الموسم الماضي رغم بُعده عنها، بفضل الله، وإخلاص العاملين معه على مدى سنوات. وأضاف بثقة أن تجربته أثبتت له أن السودان هو الخيار الأمثل – اقتصاديًا وربحيًا – متفوقًا على كثير من دول العالم من حيث الفرص الزراعية الهائلة.

وجه شكره لكل من ساهم في إعادة تشغيل وتسيير قطار العودة الطوعية، وودعني متفائلًا، عائدًا إلى تراب الوطن.

بعد ساعات، حاولت الاتصال به للاطمئنان، لكن دون جدوى. شعرت بالقلق، ثم تذكّرت أن بطارية هاتفه قد تكون نفدت، فقررت الانتظار. مرّ اليوم التالي وانشغلت، وعندما تركت هاتفي على الوضع الصامت، حاول صديقي الاتصال مجددًا، لكني لم أتمكن من الرد.
كررت الاتصال به لاحقًا، حتى أجاب بعد ايام بصوت يحمل عتابًا لطيفًا، تلاشى سريعًا حين شرحت له الملابسات، وأخبرته أنني تركت له رسالة على “واتساب”.عندها بدأت الحكاية الأجمل…

قال لي إن رحلة القطار من القاهرة إلى أسوان كانت ملحمية، امتلأت بروح الركّاب السودانيين، طيبة القلب ونخوتهم الأصيلة. لكن المفاجأة لم تكن في الرحلة ذاتها، بل في ما حدث خلالها: حيث تعرّف ابنه، الطبيب محمد، على طبيبة سودانية جلست إلى جواره في القطار.
تبادل الحديث معها وتحوّل إلى إعجاب، ثم إلى نية جدّية للارتباط. وفي لحظة من اللحظات، وقبل الوصول الي أسوان أعلن محمد لوالده رغبته في خطبتها – من داخل القطار!

بعد الطلب والقبول تبادلت الأسرتان المقاعد والوجبات، وامتلأ الجو بالفرح والمودة. ومع مرور الساعات، وُزّعت الحلويات داخل القطار احتفالًا بهذا الارتباط الفريد.
وبعد الخطوبة،وصلت العائلتان إلى أسوان، حيث اتفقوا على الإقامة لأسبوع واحد لتحضير مطلوب الزواج، ثم قرروا التوجّه سويًا في رحلة جماعية إلى داخل السودان لإتمام عقد القران والزفاف.

في دنقلا، وببساطة سودانية خالصة، تم عقدالقران واحتفل الجميع بزواج محمد والطبيبة. ثم واصل العروسان رحلتهما إلى كسلا وبورتسودان لقضاء شهر العسل، وتوثيق بعض الأوراق، بينما عاد صديقي وأسرته إلى منزلهم، الذي لم يكن بحاجة سوى لبعض النظافة

لم تخلُ الرحلة من المنغصات؛ إذ أُصيب صديقي بحمّى الضنك، فأنهكته لأيام، حتى استعان بعلاج “عصير القرع” صباح مساء بنكهات مختلفة، وبدأ يستعيد عافيته تدريجيًا.
وبين هلاوس الحمى وانتعاش عصير القرع، وُلدت في مخيلته فكرة مشروع قومي، ربما تكون نواة لنهضة صناعية زراعية في السودان.

قال لي إنه أصبح يحلم بإنشاء مصانع لإنتاج العصائر الطبيعية من القرع، المانجو، الباباي، وغيرها من الثمار الوفيرة في ولاية النيل الأزرق….
أخبرني بحماس: “ولاية النيل الأزرق ستكون مركزًا قوميًا للصناعات الغذائية في السودان!”
قلت له:
“هذا ليس حلمًا، بل مشروع قابل للتحقيق. فالنيل الأزرق تمتلك كل المقومات: كهرباء من خزان الروصيرص، مطار في الدمازين، قوى عاملة جاهزة، وطريق بري جديد من سنجة يربطها ببورتسودان، ما يجعل الوصول إلى الميناء أمرًا سهلاً وسريعًا.”

ومن هنا، بدأنا نرسم معًا معالم المستقبل:
“مصنع جلقني للعصائر”،
“مصانع أم بنين للحوم والألبان”،
ومراكز إنتاجية اخري تحمل خيرات السودان من المزارع إلى المصانع، ومن المصانع إلى الأسواق، على متن قطارات سكة حديد السودان
أنهى صديقي حديثه معي بوصية لا تخلو من الطرافة:
“قل لكل من ينوي العودة إلى الوطن، أن يبدأ أولاً بشرب عصير القرع… فهو جرعة وقاية، وحلم في زجاجة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.