منصة السودان الاخبارية
معك في كل مكان

صلاح غريبة يكتب.. الخرطوم الجديدة: حلم يتجاوز ركام الماضي

متابعة - منصة السودان -

متابعة – منصة السودان –

لقد تجرعت الخرطوم مرارة الحرب، وشهدت فصولًا مؤلمة من النهب والتدمير، تاركة وراءها مدينة جريحة، مثخنة بالآلام، وشوارع تنزف ذكريات قاسية. لم تكن يد أهلها هي من عبثت بجمالها، ولكن تقع على عاتقهم مسؤولية عظيمة في تضميد جراحها وبناء مستقبل يليق بعاصمة عريقة. الرسالة الواضحة التي يوجهها صوت الشارع المنكوب إلى والي الخرطوم مدوية: لم نعد نريد الخرطوم كما كانت، بل نطمح إلى مدينة جديدة، شامخة، وقوية، تحكمها أسس راسخة من النظام والقانون.
إن المطالب تتجاوز مجرد “نظافة” شوارع لطالما عانت من الإهمال. الحاجة الآنية والملحة هي “إصلاح” جذري وعميق، يبدأ بإعادة بناء البنية التحتية التي طالتها يد التخريب. شوارع مهترئة تحتاج إلى إعادة سفلتة شاملة، لا مجرد ترقيعات مؤقتة. شبكة صرف صحي حديثة ومتكاملة ضرورة ملحة لحماية الصحة العامة والبيئة، بدلًا من الحلول القديمة التي عفا عليها الزمن. توزيع مدروس ومنظم لحاويات النفايات في كل الأحياء هو خطوة أولى نحو مدينة نظيفة وصحية.
لكن الطموح يتجاوز ذلك إلى رسم ملامح عاصمة عصرية وجميلة. شوارع واسعة، مزينة بالأشجار والزهور، تخلق بيئة بصرية مريحة وجاذبة. تخطيط عمراني يراعي جماليات التصميم وتناسق الألوان في الأبنية الجديدة يضفي على المدينة هوية مميزة. والأهم من ذلك، تطبيق صارم للقانون الذي يجرم أي سلوك يسيء إلى هذا الجمال، من قطع الأشجار إلى رمي المخلفات في الأماكن العامة.
الصحة العامة تأتي في صدارة الأولويات. الخرطوم الجديدة يجب أن تكون خالية من الأمراض المستوطنة، الملاريا والكوليرا، التي تجاوزتها الكثير من المجتمعات. تحقيق ذلك يتطلب بيئة نظيفة، وجهودًا حثيثة لمكافحة نواقل الأمراض، بالإضافة إلى موظفين بلديين يكونون قدوة في النظافة والالتزام، لا مجرد أدوات لجباية الرسوم.
الأسواق، نبض المدينة الاقتصادي والاجتماعي، تحتاج إلى رؤية جديدة. بناء أسواق منظمة من الطوب الأحمر، مرصوفة ونظيفة، يضمن بيئة صحية وآمنة للتجار والمستهلكين. منح التراخيص يجب أن يخضع لمعايير صارمة تضمن السلامة الصحية والالتزام بالقانون، للقضاء على العشوائية والفوضى.
شوارع الأسواق والأماكن العامة يجب أن تكون خالية من مظاهر الفوضى والتسيب، الباعة المتجولين غير المرخصين، وعربات الكارو والرقشات، والمتسولين، والأطفال الذين يلاحقون المارة. عرض الخضروات والفواكه على الأرض في بيئة غير صحية، وتجمعات المياه الراكدة، كلها مظاهر يجب أن تنتهي في الخرطوم الجديدة.
الأمن الاقتصادي هو أساس الاستقرار والتقدم. لا يمكن السماح لأي شخص بالعمل دون تصاريح رسمية، بما في ذلك أصحاب المهن الحرة والباعة على الأرصفة. تنظيم عمل الأجانب في المهن التي تحتك بشكل مباشر بالمواطنين، مع التأكد من استيفائهم لشروط الإقامة وتصاريح العمل، هو ضرورة لحماية حقوق المواطنين وتنظيم سوق العمل.
لقد آن الأوان لمراجعة سياسات الدخول والإقامة في البلاد. لا يمكن أن تظل السودان، وخاصة عاصمتها، مفتوحة الأبواب بشكل غير منظم. التجارب المريرة التي خلفتها الحرب يجب أن تكون درسًا قاسيًا يدفعنا إلى تبني إجراءات أمنية وقانونية أكثر صرامة في التعامل مع الأجانب.
إن بناء الخرطوم الجديدة لا يتطلب بالضرورة ميزانيات ضخمة بقدر ما يحتاج إلى إرادة قوية، وقوانين صارمة، وتطبيق حازم. الدولة هي المسؤولة عن فرض هيبتها وسلطتها، وترسيخ النظام والقانون، لا الأفراد. لقد ولى زمن التساهل والسذاجة. السودان لأهله، ومن أراد الدخول إليه فليأت عبر القنوات الرسمية وباحترام قوانينه. أما من تسبب في الأذى والضرر، فمن العدل أن يعود إلى وطنه.
إن إعادة إعمار الخرطوم ليست مجرد ترميم مبانٍ وشوارع، بل هي بناء رؤية جديدة لعاصمة قوية، مزدهرة، تحترم مواطنيها وتصون حقوقهم، وتستلهم من الماضي دروسًا للمستقبل. إنه حلم يستحق أن يتحول إلى واقع بجهد وعزيمة وإصرار من الجميع.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.