صلاح غريبة يكتب.. بصيرة في خضم الأتون: قراءة في أداء وزير الخارجية في زمن الحرب
متابعة - منصة السودان -
متابعة – منصة السودان –
في خضم أتون حرب طاحنة عصفت بالسودان، يبرز اسم الدكتور علي يوسف أحمد الشريف، وزير الخارجية، كلاعب محوري يسعى جاهداً لترميم ما أفسدته الصراعات عبر قنوات الدبلوماسية والسياسة. ورغم قصر مدة توليه المنصب التي لم تتجاوز الخمسة أشهر حتى الآن، إلا أن البصمات التي تركها في هذا الظرف العصيب تستدعي التوقف والتحليل.
الشريف قد ورث تركة ثقيلة من التحديات الداخلية والخارجية، تزامنًا مع لحظات مفصلية شهدت تحولات ميدانية هامة كتحرير القصر الجمهوري وولاية الخرطوم. وفي هذا السياق المعقد، يبدو أن الوزير قد استطاع، وبخطوات حثيثة، تحقيق بعض الاختراقات الهامة على صعيد السياسة الخارجية، بالإضافة إلى مساعيه لإعادة ترتيب البيت الداخلي للوزارة.
على صعيد العلاقات الثنائية، يمثل تعزيز الارتباط السياسي والاستراتيجي مع مصر نقطة مضيئة في أداء الوزير. ففي ظل غياب شبه كامل للدعم الإقليمي والدولي في بداية الأزمة، تحولت مصر إلى “شريك رئيسي وخط الدفاع الأول” عن السودان في مختلف المحافل الدولية. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل كان نتاج تنسيق حثيث وتبادل معلومات شبه يومي بين وزارتي الخارجية في البلدين، وهو ما يمثل قطيعة واضحة مع فترة سابقة اتسمت بالفتور. كما أن معالجة ملفات السودانيين النازحين في مصر والقضايا الاقتصادية والتجارية عبر قنوات مباشرة مع الجانب المصري، وصولًا إلى لقاء رئيس الوزراء المصري، يعكس إدراكًا لأهمية هذه العلاقة في التخفيف من وطأة الأزمة.
أما فيما يتعلق بالعمق الأفريقي، فقد أظهر الوزير اهتمامًا ملحوظًا بدول الجوار، وسعى لانتهاج سياسة مباشرة تلامس جوهر القضايا. زيارته لكينيا ولقائه برئيسها، رغم تحفظات السودان على موقف نيروبي الداعم لقوات الدعم السريع، يمثل محاولة لتسجيل موقف السودان أمام المجتمع الدولي وعدم ترك الساحة خالية. كذلك، فإن سعيه لفك تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي وإعادته إلى منظمة الإيقاد يعكس إدراكًا لأهمية الدور الإقليمي في حل الأزمة واستعادة مكانة السودان في محيطه الأفريقي.
يُعد الملف السعودي إنجازًا تاريخيًا هامًا يُحسب لوزارة الخارجية في عهد الشريف. فالتحول الإيجابي في الموقف السعودي، الذي جاء بعد جهود دبلوماسية متواصلة، كان للوزير دور أساسي فيه من خلال التنسيق مع سفير السودان في الرياض والتواصل المباشر مع نظيره السعودي. هذا التقدم في العلاقات يحمل في طياته آمالًا كبيرة لتحقيق الاستقرار في السودان، خاصة بالنظر إلى الدور التاريخي للمملكة في دعم البلاد.
أما على صعيد العلاقات الروسية، فقد شهدت نقلة نوعية بعد زيارة الوزير الأخيرة لموسكو وتوقيع اتفاقيات من شأنها الارتقاء بالعلاقات إلى مستوى استراتيجي في مجالات متعددة. تجربة الشريف السابقة كسفير في الصين وإحداثه نقلة مماثلة في العلاقات السودانية الصينية تشير إلى امتلاكه رؤية استراتيجية في بناء التحالفات الدولية. وفي ظل تعقيدات المشهد الدولي، قد يشكل التقارب مع روسيا بالفعل “ظهيرًا قويًا” للسودان في مواجهة الضغوط الغربية والأمريكية، خاصة في مجلس الأمن.
على المستوى الداخلي، يبدو أن الوزير قد أولى اهتمامًا كبيرًا بإعادة هيكلة وزارة الخارجية وتحديث آليات العمل بها. ما يوصف بـ “الثورة الإدارية” يهدف إلى إعادة الروح المهنية للوزارة، واتخاذ قرارات جريئة لتطوير الأداء. تشكيل لجان للترقيات والتنقلات، وترقية دبلوماسيين ظلوا ينتظرون لسنوات، بالإضافة إلى السعي للانتقال إلى مبنى جديد يليق بمكانة الوزارة في بورتسودان، كلها خطوات إيجابية تهدف إلى تعزيز قدرة الوزارة على الاضطلاع بمهامها في هذه الظروف الصعبة. كما أن مبادرة تشكيل لجنة للعودة إلى الخرطوم بعد تحريرها تعكس إصرارًا على استعادة العاصمة كمركز للعمل الحكومي.
أخيرًا، يبرز شعار “الجيش والدبلوماسية في خندق واحد” كإطار عمل جديد للوزارة في عهد الشريف. هذا الشعار يعكس حالة التلاحم الوطني في مواجهة الحرب، ويشير إلى أن الدبلوماسية أصبحت أداة مكملة للجهد العسكري في الدفاع عن الوطن.
بالنظر إلى مجمل هذه النقاط، يمكن القول إن الدكتور علي يوسف أحمد الشريف، وخلال فترة وجيزة، قد أظهر مقدرات دبلوماسية وسياسية واعدة في التعامل مع التحديات التي فرضتها الحرب على السودان. لقد استطاع تحقيق اختراقات هامة في علاقات السودان الخارجية، خاصة مع مصر والسعودية وروسيا، بالإضافة إلى جهوده لترتيب البيت الداخلي للوزارة وتعزيز قدرتها على العمل في ظل الظروف الراهنة.
ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلًا وشاقًا. فالأزمة السودانية معقدة ومتشعبة، وتتطلب جهودًا دبلوماسية وسياسية مستمرة ومتواصلة على كافة الأصعدة. يبقى التحدي الأكبر أمام الوزير هو الحفاظ على هذه المكتسبات وتطويرها، واستثمار هذه العلاقات الجديدة في الضغط من أجل وقف الحرب وتحقيق السلام والاستقرار في السودان. إن تقييمًا شاملًا لأداء الوزير سيظل مرهونًا بقدرته على مواصلة هذا المسار التصاعدي وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع في سبيل خدمة السودان وشعبه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه.