حتى القرن الـ19 كان الوجود اليهودي في فلسطين يقدر بأعداد قليلة، ولم يكن يتعدى بضعة آلاف متفرقين بين صفد وطبريا والقدس ويافا وغيرها من مناطق فلسطين، لكن تلك الأعداد بدأت بالتزايد مع الدعوات في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين لأسباب دينية واقتصادية.
يُرجع بعض المؤرخين المرحلة الأولى للاستيطان اليهودي في فلسطين إلى نابليون بونابرت حين احتل مصر عام 1798 وأصدر حينها بيانا دعا فيه اليهود من آسيا وأفريقيا إلى مساعدته في حملته مقابل دعمهم في الوصول إلى “أرض الميعاد” حسب زعمه، وقد جاءت دعوة نابليون هذه على أرضية حرصه لتحقيق إنجاز متميز جراء مساعدة اليهود له.
ووفقا لرفيق النتشة في كتابه “الاستعمار وفلسطين” فإنه مع فشل حملة نابليون على مصر وفلسطين وعودته بعد 3 سنوات، انطلقت بدايات الاستيطان اليهودي الفعلي في فلسطين في عام 1840م حين عرض اللورد شافتسبري في مؤتمر لندن مشروعا إلى اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني يطلب فيه أن تتبنى الحكومة البريطانية عملية تنظيم هجرة اليهود ونقلهم إلى فلسطين.
تبنى بالمرستون هذه الدعوة وتحمّس لها لإقامة كومنولث يهودي لإقامة الدولة العبرية القديمة في فلسطين لأسباب سياسية ودينية اشترك فيها البروتستانت مع اليهود، وهي تتمثل في تسريع عودة المسيح إلى فلسطين، وإقامة دولة عازلة لإضعاف الدولة العثمانية وإسقاطها.
كان قانون الامتيازات العثماني منذ زمن سليمان القانوني قد منح الفرنسيين الحق في دعم ورعاية والدفاع عن حقوق الكاثوليك في الدولة العثمانية، بينما مُنح الروس فيما بعد حق الدفاع عن الأرثوذكس ومصالحهم، وأخيرا أدركت بريطانيا حقيقة هذا التنافس الاستعماري وأيقنت أن التأسيس لنفوذها في داخل الدولة العثمانية لن يكون إلا من خلال طائفة دينية تعتمدُ عليها في وجودها في الأرض المقدسة.
استفادت بريطانيا من فكرة نابليون دعوة اليهود إلى فلسطين، وأخذت طرف الخيط منه حين أسست قنصليتها في القدس سنة 1838م ثم عملت على إنشاء فروع لها في حيفا ويافا وعكّا، وأخيرا عقدت مؤتمر لندن الذي دعا اليهود إلى الهجرة لفلسطين لإنشاء الدولة العبرية لتكون خادمة للمصالح البريطانية في المنطقة.
وترصد الكاتبة نائلة الوعري في كتابها “دور القنصليات الأجنبية في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين” هذه الخطة التي بدأت بريطانيا بتنفيذها على الفور عقب افتتاح قنصليتها في القدس، فقد أخذت تُشرف مباشرة على حماية اليهود، والحيلولة دون التصدّي لهم أو التدخل في شؤونهم.
استفاد اليهود كثيرا من هذه الميزة، وكتب القنصل البريطاني الأول في القدس وليام يونغ إلى قاضي المدينة رسالة يؤكد فيها أن “القنصلية البريطانية هي المسؤولة عسكريا وسياسيا عن حماية رعاياها من اليهود في فلسطين وأن على القاضي الشرعي أن يأخذ ذلك بالحسبان رسميا في معاملاته وتصرفاته”.