منصة السودان الاخبارية
معك في كل مكان

حين تُهاجِرُ النخلة… ويظلُّ القلبُ عند الضفاف

بقلم – أمين الجاك عامر – المحامي

في صباحٍ مختلف، ومع أول انحسار لمياه فيضانٍ عنيف، ظهر على ضفاف النيل الأزرق، عند ذلك المنحنى، وعلى بُعد خطواتٍ معدودة من قُبّة الشيخ سعدابي بمدينة ود مدني، قلبٌ مدفون، نابضٌ رغم ما مرّ عليه من زمن. كان ينبض كأنه يبحث عمّن فقده، وكأن خيطًا خفيًّا يربطه بتلك النخلة التي اقتُلعت من ضفته يومًا، ورُحِّلت بعيدًا إلى أرضٍ لا تعرف طميه ولا أنشودته المسائية.

ومع أنّ الحكاية تبدو، للوهلة الأولى، قصةً بين عاشقٍ وشجرةٍ هُجِّرت من موطنها، فإنّ ما تكشفه تفاصيلها اليوم أكبر من ذلك بكثير.فالنخلة التي استقرّت في بستانٍ بعيد خلف البحار ما زالت، رغم الغربة، تنمو في وجه الريح، وتُثمر بكرمٍ لا يشبه غربتها. ومن حولها تنهض نخلاتٌ جديدة، كأنها خريطة صغيرة لذاكرةٍ خضراء، تؤكّد أن الجذور، مهما ابتعدت، لا تنفصل عن موطنها الأول.

السكان في المنطقة التي احتضنت النخلة المهجَّرة يتحدثون عنها كأنها ضيفة استثنائية. يقولون إنها، منذ يومها الأول، كانت تميل قليلًا مع الريح، كأنها تُصغي لصوتٍ بعيد لا يسمعه سواها، وتبحث في الأفق عن نسيمٍ تعرفه بصدق. ومع مرور الوقت، حين بدأت تُنبت نخلاتٍ طوالًا من حولها، رأى المزارعون أمامهم مشهدًا غير مألوف: نخلةٌ غريبة تزدهر بسرعة، وتُنبت بسخاء، كأنها ما تزال مشدودةً بجذرٍ باقٍ هناك، على ضفة نهرٍ لم يغادر ذاكرتها.

وفي المقابل،حين كشف الفيضان الأخير في بلدها الأمّ عن القلب المدفون عند الضفاف، أدرك الأهالي أن ما يردده الشعراء لم يكن محض خيال. فالقلب لا يزال يتنفّس على مهل، يستعيد بعض نبضه من بقايا الجذع الذي ظلّ ثابتًا في مكانه، رغم كل ما اقتُلِع من حوله. ولعل في ذلك ما يذكّر بأن الفقد قد يُغيّر ملامح المكان، لكنه لا يمحو ما تبقيه الذاكرة حيًّا في الأعماق. وأن الاغتراب، مهما طال، لا يطمس اتجاه الروح نحو أصلها الأول.

وبين النهر هنا، والبستان هناك، تمتد اليوم حكاية “الريدة” كما يرويها الناس: حكاية عن حبٍّ لا تهدمه المسافات، وعن جذورٍ تؤمن بأن العودة—إن لم تكن بالجسد—فبالحضور والحنين. حكاية قلب ظلّ يدقّ تحت الطمي، مترقّبًا فيضانًا جديدًا يزيح عنه غبار السنين… ويمنحه فرصة أخيرة ليروي حكايته كاملة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.