منصة السودان الاخبارية
معك في كل مكان

حنتوب.. ذاكرة الجمال الأولى ومدينة التعليم التي لا تغيب

بقلم  – أمين الجاك عامر – المحامي

في الأسابيع الأخيرة، ظلّ مولانا العالم حسين الفكي، قاضي المحكمة العليا، يخصّص فصولاً من مقالته الراتبة للحديث عن مدرسة حنتوب الثانوية، تلك اللؤلؤة الهادئة التي وُلدت على ضفاف النيل الأزرق، فصار اسمها يسبق شهرتها، وصيتها يسبق تاريخها، وجمالها يسبق كل وصف.

يعود مولانا، بحسّ المجرَّب وصدق المتذكّر، إلى أيام المدرسة الأولى، إلى “الجميلة” التي صدح لها الفنان الخير عثمان عام 1946 في حفل افتتاح المدرسة، حين غنّى:

حنتوب الجميلة…
منظرها البديع… يا روعة جلالو
تعجب حين تزورو… وتجلس على تلالو
الجميلة الجميلة
هنا فيها الأدب… وهنا فيها الشباب
الشباب العامل لوطنو…

وهي من كلمات وألحان الشاعر عوض الكريم القرشي، كما أشار الدكتور سالم في إحدى مقالاته.
لم تكن تلك الأغنية مجرد طرب، بل تلخيصاً لعلاقة مكان بوجدان الناس، وارتباط جيل كامل بمدرسته التي صنعت هويته.

مقالات مولانا حسين الفكي فتحت أبواب الذاكرة أمامي، وأنا على بُعد آلاف الأميال من الوطن، فأعادتني إلى سبعينات القرن الماضي، إلى تلك الأيام التي رافقتُ فيها والدي، عليه الرحمة والمغفرة، الأستاذ محمد الجاك عامر، قبل قيام كبري حنتوب.
كان الوالد مديراً لهذه المدرسة العريقة، وهو من أوائل دفعاتها، وكان مهيباً لا تزال صورته العالقة في البال تُشعرني بتلك الهيبة حتى اليوم.

وكان المشهد لا يكتمل دون “الرفّاس” المخصص للمدرسة والمدرسين، الذي كان يقوده العم عبده، والد زميلي في حنتوب الابتدائية ومدني الأهلية توفيق عبده.

ومما يرسخ في الذاكرة ذلك المُشرع الملاصق لمنزل المدير. هناك تبدأ الحياة منذ الفجر: حركة، خطوات، أصوات، وصدى ماء النيل وهو يستقبل البنطون.
كان ذلك البنطون هو الرئة التي تتنفس عبرها حنتوب وأبو حراز والتكيلات والملكية وحلة خدر والحديبية والشبارقة والدناقلة والعريباب ونسيم الجنة، وكل القرى البعيدة عن ودمدني.
يحمل الناس والدواب، وينقل الخضروات والدواجن والفاكهة والقمري. كان بنطون حنتوب هو الوسيلة التي تربط المدينة بشرق النيل، ويمنح المكان حيوية لا تخطئها العين.

عندما انتقلنا للإقامة في حنتوب، انتقلتُ من مدرسة مجمع بانت إلى مدرسة حنتوب الابتدائية المختلطة، ولحظتها بدا لي العالم مختلفاً.
كان جلوس البنات في المقاعد الأمامية والأولاد في الخلف مشهداً جديداً على طفل يتلمّس وعيه الأول.

وكان أول فصلنا في مدرسة حنتوب الابتدائية محمد خليل الكارب، الذي مضت السنون دون أن ألتقيه، ثم علمت لاحقاً أنه أصبح من كبار الأخصائيين، وقد عاد قبل الحرب ليفتتح عيادته في السودان.

في حنتوب كنا نخرج بعد المدرسة لنلهو في الفضاء الواسع، نقصد “الدروة” قرب التكيلات بحثاً عن فارغ الرصاص، أو نتجه نحو ملاعب حنتوب الثانوية المخصّصة لكرة السلة والطائرة والقدم.
كانت المدرسة بالنسبة لنا مدينة كاملة: طرقات، ملاعب، أشجار، أصوات، ووجوه لا تُنسى.

كلما طالعتُ مقالات مولانا حسين الفكي، عاد الزمن بي إلى تلك التفاصيل الصغيرة التي شكّلت وعينا، وإلى المكان الذي علّمنا معنى الجمال والانضباط، وفتح أعيننا على الدنيا.لم تكن حنتوب مدرسة فحسب، بل قدَراً مشتركاً لجيل كامل، وجزءاً من ذاكرة وطن بأكمله.

وتبقى حنتوب… كما غنّى الخير عثمان:
جميلة… في منظرها، في أهلها، وفي أثرها الذي لا يزال ممتداً حتى اليوم.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.