منصة السودان الاخبارية
معك في كل مكان

“ساعي البريد… رسالة من زمن جميل”

مقال – أمين الجاك عامر –

في ليلة بهيجة من ليالي الأفراح العامرة بالمحبة والنغم الأصيل، وفي زواج نجل المحامي الكبير سيف اليزل صديق الحسين بدولة الإمارات، صدح الفنان عاصم البنا بإحدى أغاني الزمن الجميل من مكتبة الإذاعة السودانية:
“بالله يا ساعي البريد، سلِّم على الزول البعيد، قول ليهو غيرك ما بريد…”

طربنا جميعًا وتمايلنا على نغمات هذه الأغنية الخالدة، وإذا بي في اليوم التالي أجد ساعي البريد يطرق باب شقتي، حاملاً لي مستندًا رسميًا كنت قد تقدمت بطلبه قبل يومٍ من الحفل.

سلّمني المستند بابتسامة صادقة، مرتديًا أبهى زيه، وإذا بي أتأمل في مشهدٍ لم أره منذ زمن. تسارعت في خاطري مشاهد الطفولة والشباب، وتذكرت ودمدني، مسقط رأسي، حيث كان البريد جزءًا من نسيج الحياة اليومية.

عند قبة الشيخ محمد مدني السني في حي المدنيين، كان يقف صندوق البريد شامخًا في الجهة المقابلة، قبالة صينية الحمامة. كانت عربات البريد تمر صباحًا ومساءً، تجمع الرسائل وتوزعها بدقة ونظام.

وفي أيام الإجازة، ونحن شباب، كنا نقضي الوقت في دكاكين أهلنا بالسوق، وكان من أحب المشاوير إليّ: “مشوار البوستة”. كنت أذهب لفتح صندوق البريد بالمفتاح الخاص، أبحث عن الرسائل، المجلات، والصحف التي كانت تصلنا من الخارج.

أتذكر بتأثر شديد تلك المجلات الإنجليزية، مثل “التايمز” و”النيوزويك”، التي كانت تصل لوالدي رحمه الله، وكذلك رسائل الجامعة الأمريكية في بيروت التي درس فيها، وظلت تصلنا حتى بعد وفاته، ثم توقفت بتوقف هذه الخدمة.

دخلت خدمة البريد السودان في العهد التركي المصري عام 1867م، حين تأسست خدمات البريد والبرق، وافتُتحت أول مكاتب بريدية في الخرطوم، وادي حلفا، سنار، وكسلا. لكن مع قيام الثورة المهدية وسقوط الخرطوم، توقفت الخدمة.
وفي عام 1898م، عادت الخدمة وتوسعت بإنشاء شبكة حديثة، مكاتب ومحطات تلغراف، واستخدام خطوط السكة الحديد لنقل البريد بين المدن.

عام 1914م، أصبح السودان عضوًا في الاتحاد البريدي العالمي (UPU)، ما سمح له بتبادل البريد دوليًا. أما أول طوابع بريدية سودانية، فقد صدرت في عام 1897م، وحملت صورة “الجمل الشهيرة”، التي أصبحت رمزًا بريديًا فريدًا، وعلامة من العلامات في العملات الورقية.

تأسست لاحقًا هيئة البريد والبرق السودانية كجهة حكومية، وتوسعت خدماتها لتغطي المدن والقرى. لكن في عام 1990م، تم تفكيك الهيئة إلى جهات متعددة، منها الهيئة القومية للاتصالات، والشركة السودانية للبريد “سودا بوست”، وظهرت شركات خاصة كمنافسة.

من ينظر إلى ما آلت إليه خدمات البريد في السودان، مقارنة بدول الجوار، سيجد أننا فقدنا خدمة كانت من أكثر الوسائل فاعلية، ودقة، وتنظيمًا.

في كثير من الدول الآن، تصلك كافة مستنداتك الحكومية إلى باب منزلك عبر البريد: الجواز، رخصة القيادة، الإشعارات، والوثائق.

أما نحن، فما زلنا نفتقد لعنصر أساسي في هذه العملية: العنوان الوطني، وتحديث محل الإقامة، وربطهما برقم الهاتف.

البريد يمكن أن يختصر علينا مشاقًا كبيرة، إذا ما أُعيد تنظيمه، وربطه بالمؤسسات الخدمية كافة. تجربة ساعي البريد الذي طرق بابي بالأمس، أعادت لي الأمل في أن هذه الخدمة يمكن أن تعود، أقوى، وأفضل.

علينا أن نُعيد للعنوان، محل السكن، ورقم الهاتف أهميتهم في المنظومة الخدمية، حتى نستعيد جزءًا من النظام والانضباط الذي كنا نعيشه…
ولعلها مصادفة جميلة أن يعيد إلينا ساعي البريد، رسالة من الماضي… وأملًا في المستقبل.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.